28 Oct
28Oct

“ الحب في الله ؟ ..

فلنعترف أننا لا نعرفه لأننا لم نتعرف عليه - لقد سمعنا به لكنه لم يبق في بالنا، لم نضعه في  قائمة اهتماماتنا .. لم نفكر أننا سنلقاه يومًا ، إنه مجرد كلام، وغير متسق أيضًا .. أو أنه مجرد كلام نظري غير قابل للتطبيق العملي ..

الحب في الله ؟ .. المتدينون عمومًا، يستعملون كلامًا كهذا، شئ يقال عادة في المناسبات والمجاملات مثل بقية كلمات التهنئة والمعايدات التي تختلط فيها الأدعية بالمجاملة؛ باللامبالاة؛ بالصدق .. 

“ يا أخي أنا أحبك في الله “ - ويقسمون على ذلك فيما بينهم، ولعلهم لا ينوون غير الصدق عندما يقسمون، فهي عبارة متداولة فيما بينهم، لذلك فهم لا يتصورونها خارج الإطار المنطوق لهذه الجملة : إنها نوع من أنواع الشكليات في العلاقة فيما بينهم : ولذلك فالحب في الله - في أذهانهم - هو محض علاقة بين متدينين، والتي هي علاقة - يفترض فيها الصدق - ولكنها لا تختلف كثيرًا عن أي علاقة صداقة ومودة بين اثنين- فلنقل إنهما مهذبان ولا يتبادلان السباب والشتائم كمزاح مفضل - كما هو الحال عند كثيرين ..

لكن هل يمكن أن يكون هذا هو الحب في الله ؟ .. أين الله من الموضوع أصلاً ؟ - إذا كان الأمر مجرد علاقة مهذبة بين اثنين مهذبين ؟ ..

لا . ليست تلك العبارة التي نقولها نصف مجاملين، نصف كاذبين، نصف صادقين، نصف لا مبالين..

لا يمكن أن يكون ذلك ..

ذلك أن الرسول الذي لا يكذب أبدًا قال لنا، إن هذا الحب في الله هو عنصر أساسي وصفة حلاوة الإيمان .. 

.. ولقد ذقنا في حياتنا وصفات مختلفة لحلاوات متنوعة أورثتنا المرارة، وبعضها أورثنا الندم.. وبعضها قادنا إلى العدم ..

لكن حلاوة الإيمان هذه، وبالذات من خلال الحب في الله ؟ .. لا .. لم نتذوقها .. ولم نتعرف على وصفتها .. ولم نتخيلها أكثر من مجرد كلمة أخرى تقال من مجاملات العيد .. 

حب في الله ؟ .. نعرف الحب ربما . لكن في الله - الكلمة تبدو نشازًا .. أو هكذا نظن .. حسب القوانين السائدة والتقاليد الشرعية ..


حب في الله ..

صداقة بين يتيمين في الملجأ. كتف تستند عليه مرة، وتحكي له مرة وتبكي له-ربما دون دموع- ألف ألف مرة.

مرة يد تمتد لك، ومرة يد تربت على كتفك . 

ومرة يد تمتد لتمسح لك دمعة ..

مرة أذن لتصغي لك. ومرة لسان يحكي لك، ومرة قلب يدق إذا دق قلب لك ..

.. هاتف يرن عندما تحتاجه . وباب تطرق وأنت في قمة أحزانك، وود يجتاحك وأنت تحتاجه .. 

حب في الله ..

غيمة شفافة عند الأفق .. وضوء ساطع في نهاية النفق .. وشمعة وعود ثقاب، وخريطة - ودواء يحمي من الأرق .. 

حب في الله .. 

صوت: مرة صارخ في البرية . ومرة هامس في أذنيك همسة ندية ، ومرة يتجلى في قلق هائل عليك ، ومرة يتمثل في محض هدية ..

حب في الله .. فكرٌ مضيء يجتاح الحواجز - يلغي الحدود- وتكتشف فجأة أن الذي أضاء رأسك يمكن أن يضيء رؤوس الآخرين - يمكن أن يضيء اللحظات المشتركة ..

حب في الله ..

لا ميزان متعادل، ولا مكاييل للتوازن . ولا مقايضة في المشاعر .. لا حاجة هناك لأن يكون عطاؤك موازيًا لأخذك .. ولا إحساس بالتنازل .. ولا بذل التنازل ..

حب في الله .. لا قيود - لا شروط .. ولا حدود .. 

لا قيود جمركية على ما يخرج منك من عطاء .. ولا شروط ضريبية على ما يدخل إليك من مقابل ، ولا حدود تقف أمامها بانتظار التأشيرة ..

حب في الله : صفاء مجاني يتدفق منك بلا حساب، لا تريد شيئًا بالمقابل ، ولا تطمح لشئ بالمقابل - لا تفكر متى يرد جميلك لأنك أصلاً لا تعتبر أنك قد أديت جميلاً أو فضلاً ..

حب في الله .. إلغاء للمسافات البعيدة ، وتلاق بين القطارات في محطات جديدة ..

نوارس تأتي من بعيد ، وأيادٍ تلوح باللقاء .. وجه أليف يطرق الباب بعد غياب ..

.. وعند الوداع ، دمعة حزينة ، ونظرة حنونة ، وابتسامة مكلمومة ..

.. واتفاق على لقاء بعيد قريب .. حتى لو كان بعد آلاف السنين ..

حب في الله .. هذا هو !


بقدر ما يبدو الأمر خياليًا - فإنه في حقيقته شديد الواقعية ، ويكفي كلاً منا تجربة واحدة فقط ، ليخترق بها جدار العلاقات البليدة المتكلسة ، ويمد بنفسه وكونه نحو ذلك البعد الآخر حيث يتجلى فيه زمنٌ آخر .. وحبٌ آخر .. وحلاوة أخرى .. “


اقتباس من كتاب [ غريب في المجرة ]

د. أحمد خيري العمري

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة