" و أعرف أنني أعامل الناس والأشياء كأنهم معانٍ مجردة في الضمير، لا كأنهم شخوص و محسوسات "
لقد قرأت هذا الكتاب بعد فترة طويلة مضت على سؤالٍ طُرح علي، ثم عَلِق في ذهني حتى أمسكت بالكتاب و قرأته ..
كان السؤال : هل الكاتب عباس محمود العقاد من الكماليين ؟
استثار فضولي هذا السؤال، لكنّي أجلت قراءته لأسباب و ظروف عدة..
الآن يمكنني أن أقول : نعم، هو كمالي أو كما يسمونهم أيضًا مثاليين (NF) في مقياس مايرز برقز للشخصيات ( mbti ) .. أحببت أسلوب العقاد السلس و البسيط في سرد سيرته و حياته .. أعجبتني تشبيهاته ، خياله الواسع ، عاطفته كما هي كتابات جميع الكماليين .. شعرت أن شخصًا يتحدث معي بكل أريحيه عن نفسه و عن مكنوناتها و عن مشاعره اتجاه مواقف أو أفكار مرت به في حياته .. لم أشعر بالملل و أنا أقرأه .. كان يجمع بين سرده لحياته و بين أفكاره و رأيه الخاص عن الأشياء و الأمور التي يراها أو يسمعها .. كان الكتاب بالنسبة لي جولة ممتعة في باطن إنسان ، في عمق فكره و قلبه .. ربما أكثر في نهاية الكتاب من الحديث عن الفلسفة ، لكن هذا لا يقلل من جمال الأسلوب و جمال الكتاب أبدًا ..
لن أتحدث أكثر عن الكتاب ، سأترك هذه الاقتباسات تتحدث عنه ( ربما تكثر الإقتباسات أو تطول لكثرة ما في الكتاب من فوائد ثمينة ) .. أتمنى لكم قراءة ممتعة :
- هل يعرف الإنسان نفسه ؟ .. كلا ، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شئ في الأرض والسماء ، وفي الجهر والخفاء ، ولم يكتب ذلك لأحد من أبناء الفناء.. إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد و هو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقي بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها، لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه وخصائص أرضه وهوائه وتاريخ ماضية ولو قسنا كل شبر في حدوده .
- كنت في طفولتي أحب مراقبة الطير والحيوان، وكان فضاء بلدي-أسوان- يمتلئ في أوائل الشتاء وأوائل الصيف بأسراب الطير المهاجرة إلي أفريقية أو القافلة من الهجرة، فاتفق أنني تتبعت سربًا منها وهو يحط على الأرض ويرتفع، حتى ضللت الطريق في الصحراء وعدت إلى المنزل بعد هبوط الظلام.
- إنني أقرأ هذه الكتب وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، و إن كانت تفترق في الظاهر، لأنها ترجع إلي توسيع أفق الحياة أمام الإنسان.. فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة و بعد الموت. وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة، وتراجم العظماء ، معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فإنني أفضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة.
- إذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع و أصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير، ولو في غير هذا الموضوع.
- اطلع الأستاذ الإمام " محمد عبده " على إحدى الكراسات فقال : " ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعد ! .. "
فكانت هذه الكلمات أقوى ما سمعت من كلمات التشجيع، و لكنها جاءت بعد سنوات في القراءة ومحاولة الكتابة .. و لا يقرأها أحدٌ غيري وغير تلميذين أو ثلاثة من الزملاء .
- و ليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع ، ولكنها إذا كانت المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره.
- لكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا و إدراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية، وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر.
- إن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمه لكل فكر كما توجد أطعمه لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريًا في كل موضوع . و عندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختبار الطعام.
- لا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني تجارب الحياة عن الكتب ، لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، و أما أن التجارب لا تغني عن الكتب ، فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين.
- مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل و تذوق الحياة.
- أؤمن بالتشجيع و الظروف و الرغبة تتلاقى معًا وتتوافق في الخطوات الأولى .. و لا أؤمن بها متفرقة يتيسر بعضها ويتعذر سائرها في مستهل الطريق.
فكلمات التشجيع إذا امتنعت الظروف المواتية قلما تفيد، وكلمات التشجيع مع مواتاة الظروف تضيع كلها عبثًا إذا امتنعت الرغبة في نفس الناشئ ودل امتناعها على نقص الاستعداد أو على الرغبة في عمل آخر يضل عنه حتى يهتدي إليه، وفي ظرف من الظروف.
- ماذا نتعلم من ساعات الفراغ ؟
نتعلم منها كل شئ، ولا نتعلم شيئًا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال إلا واحتجنا بعده أن نتعلمه مره أخرى في وقت الفراغ.
فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير.
… ولولا أننا نخشى أن يقدس الناس الفراغ لقلنا إن تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر مدين لساعات الفراغ.
- من لم يتعلم حقائق الضمير الإنساني من الطفل فما هو بمستفيد شيئًا من علوم الكبار، ولو كانوا من كبار العلماء.. وصحبة الطفل الصغير رياضة ، وما أجملها من رياضة ..
- هكذا طعام العقل أو طعام الروح حيثما عرفت الروح ما يصلح لها، وما يليق بها من طعام، إنها لا تستريح بغيره، ولا تتوانى عن طلبه، ولا تنتظر المثوبة أو الشكر؛ لأنها تختار غذاءها فتحسن اختياره، ولا ترضى بما دونه، وإنما المهم أن تعرف هذا الغذاء فإذا هي عرفته فلا باعث لها إلى الخير أقوى من الشوق إليه، ولا وازع لها ، ولا عقوبة تخشاها في سبيله أوجع من فواته والحرمان منه .
- لا تقنط من طيبة الناس كل القنوط، ولا تعول عليها كل التعويل، بل أحسن الظن بالناس كأنهم كلهم خير، واعتمد على نفسك كأنه لا خير في الناس .
أنا لا ألُومُ ولا أُلام
حسبي من الناس السلام
أنا إن غُنِيتُ عن الأنام
فقد غُنِيت عن الملام
وإذا افتقرت إليهم
فاللوم من لغوِ الكلام
- غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك ، ولا تنتظر من الناس كثيرًا .
- لقد عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل في عهد النبي خوفهم من الموت، فقال : إنهم أحرص الناس على ( حياة )، ولم يقل على الحياة .. لأن الحرص على الحياة واجب طبيعي و واجب إلاهي لا عيب فيه، فلا يلام الحي على أن يحرص على الحياة.. وإنما يلام لأنه يحرص على كل حياة وأي حياة، ولو قبل الهوان، وهرب من الواجب ، وامتنعت عليه وسائل العمل النافع، ووسائل الرجاء في صلاح الأمور .
- إنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورًا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء ...
إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه؛ لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون.
- اليوم الجميل هو الذي نملك فيه دنيانا ولا تملكنا فيه، وهو اليوم الذي نقود فيه شهواتنا ولذاتنا ، ولا ننقاد لها صاغرين أو طائعين.
- قال شاعر حديث :
يطلب الإنسان في الصَّيف الشَّتا
فإذا جاء الشَّتا أنكره
ليس يرضى المرءُ حالاً واحدًا
قُتِل الإنسان ما أكفره!
- فليس كل انطواء كبتًا للنفس، أو كتمانًا لسر من الأسرار الخفية، وهناك فارق كبير بين السكوت خشية الكلام، والسكوت لأنك لا ترى حاجة إلى الكلام.
- ولست أدري لِمَ يحضرني خاطر الطعام المخزون في العلب كلما تحدثوا عن الكتب وما فيها من طعام العقول؟! فما القول في رأس فيلسوف مجفف لساعة الحاجة إليه ؟!
أنصحكم بقراءته ()
رابط الكتاب :