03 May
03May

نتعب كثيرًا عندما تكون أحلامنا وآمالنا أكبر من الواقع، ونصحو حين نصطدم بأحد جدران الحياة ..

اصْطَدَمَ هو مؤخرًِا بجدار.. كان يُؤْمن أن الفردية أمرٌ حتمي على الإنسان، وأنه لا بد أن يكون يومًا ( فردًا )

{ وكلكم آتيه يوم القيامة فردا } ، { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } 

يَسْمَع في الدعاء: اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، تحت الجنادل والتراب ( وحدنا ) ..

يَتَذَكر أن جبريل حين جاء يَمْسح ألم الوحدة عن قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحقيقة فقال له: ( يا محمد أحبب من شئت، فإنك مفارقه ) .. 

ورغم أنه يُؤمن بذلك، إلا أنه يبقى ( إنسانًا )!، يسقط دائمًا في حفرة ( تَمَنِي الاجتماع الدائم )، ولهذا سُمي إنسانًا، إذ أن اسمه اشْتُق من ( الأُنْس ) نقيض ( الوحشة )، لكنَّ الحقيقة دائمًا تخفف من هذه الوحشة، تُسَكِّن من هذا الألم، إذ لا بد أن يتذكر أنه صائرٌ إليها لا محالة، وأن التأقلم خيرٌ من الهروب .. وأن ( يحبَّها )، إذ أن الحب درجةٌ أعلى من التأقلم..

وكيف للإنسان أن يحب ما يكره !؟

ذكر الطنطاوي في كتابه ( من حديث النفس )، كلامًا عن هذا فقال: “ ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة ، كنت أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي ، وأحس بأنها غريبة عني ، ثقيلة علي لا أطيق الإنفراد بها ، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحاري قاحلة ، وبيدًا مالها من آخر ، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي ، فأحاول الفرار ، ولكن أين المفر من نفسي التي بين جنبي ، ودنياي التي أعيش فيها ؟ 

.. انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة ، وأغرق وحدتي في لجة المجتمع ، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت ، فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذه الحشد الذي يصفق لي ويهتف ـ ـ ـ ولكني لاأخرج من النديِّ ويرفضُّ الناس من حولي ، وانفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان ، وترجع الوحدة أثقل ، فكأنها مانقصت هناك إلا لتزداد هنا ، كالماء تسد مخرجه فينقطع ، ولكنك لاترفع يدك حتى يتدفق ماكان قد اجتمع فيه.. 

وجدت الشهرة لاتفيد إلا اسمي ، ولكن اسمي ليس مني ، ولاهو ــ أنا ــ فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي ، فلم أجد الحب الاء اسماً لغير شيء ، ليس له في الدنيا وجود … ولكن أن تلتقي الأرواح ؟ وأين هذا الحب الجارف القوي الخالص الذي يأكل الحبيبين كما تأكل النار المعدن ، ثم تخرجها جوهراً واحداً مصفى نقياً مافيه ــ أنا ــ ولا ــ أنت ــ ولكن فيه ــ نحن ــ ؟

فنفضت يدي من الحب ، ويئست من أن أرى عند الناس الإجتماع المطلق ، فعدت بطوعي أنشد الوحدة المطلقة

صرت أكره أن التقي بالناس ، وأنفر من المجتمعات ، لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيفاً ، يتعانق الحبيبان ، ولو كشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل مابين الأزل والأبد ، ويتناجى الصديقان ، ويتبادلان عبارات الود والأخاء ، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلا منهما يلعن الآخر ، وترى الجمعية الوطنية ، أو الحزب الشعبي ، فلا تسمع إلا خطباً في التضحية والإخلاص ، ولا ترى إلا اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلا الإخلاص للذات ، وحب النفس ، وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة

وجدتني غريباً بين الناس فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها ، وأجوب مافيها وأقطع بحارها ، وأدرس نواميسها وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء ، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء” أ.هـ 


ربما يجد الإنسان الأُنس في صديقٍ أو عملٍ أو هدف .. لكن ما تلبث هذه الأمور إلا أن تخذلك في ساعة من الساعات أو وقت من الأوقات .. ولا يخذلك الله تبارك وتعالى .. إذ هو القريب دائمًا والسميع لأوجاعك والبصير بها .. تغيب أنت ولا يغيب هو عنك سبحانه وتعالى ..

( اللهم إنّا نسألك الأنس بقربك )

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة